“البؤساء”
–فيتشر–
في إحدى حدائق الألعاب بمدينة صنعاء تتوزع مشاهد عديدة تدعو للبهجة، ضحكات أطفال وقفزات متعتهم وهم يتنقّلون بين لعبة وأخرى، ألوان ورسوم زاهية هنا وهناك، نغمات مرحة تصدح من كل جهة، أرصفة تفيض بالخضرة والزهور النضرة على امتداد المكان.. لوحة بصرية وصوتية متناغمة تبعث السلام في روح كل من يتأملها…. إلى أن تأتي تلك الأصوات الغريبة والوجوه الصادمة، فتبدأ لوحة السلام بالتهتُّك رويداً كلما اتضحت الكلمات وبرزت الملامح… لقد ظهر المزيد من الأطفال أيضاً، ولكن لا وجود لأي ضحكة هذه المرة، ولا لأي قفزة متعة ومرح… أحجام صغيرة كأحجام كل أطفال العالم، ولكنها خاملة متهالكة وكأنها لعجزة هرمين.. نبرة أصوات حادة وقاصرة كتلك التي يملكها كل أطفال العالم.. ولكنها بلا أي نغم يدل على الحياة أو الطفولة…
على الله!
تراهم متناثرين في كل تجمّع للكبار، يحملون أشياء كثيرة، أو فقط يرفعون يد التوسل والتذلل نحو كل عابر..
في مساحة لا تتجاوز العشرين متراً كان يوجد ما يقرب السبعة أطفال ما دون العاشرة، البعض يروّج لبضاعته الصغيرة، والبعض يركَن للتسوّل والشحاذة، وكلهم تجمعهم الملامح الرثة نفسها، و الطفولة المسلوبة نفسها.. إلى جانب أنه لم يعد هناك أي فرق في نظر الناس بين من يبيع ومن يتسوّل، فردة الفعل هي ذاتها تقريباً تجاه الاثنين: على الله!
ذاك الصبي مثلاً، يبدو بعمر السادسة، يحمل علبة كرتونية ربما لنوع من البسكويت، إنها بطول صدره الهش، يدور ويركض من عند تلك المرأة إلى ذاك الرجل: يا خالة، اشتري مني بسكويت، على الله!
يا عم.. لدي بسكويت لذيذ، هل تريد؟ على الله!
يحزن، ولكنه لا ييأس.. يواصل المحاولة ويمضي نحو خالة أخرى وعمّ آخر..
فتاة كرات الثلج
غيداء عبدالله، لست واثقة من أن هذا اسمها فعلاً، فالكثير من الأطفال هؤلاء يعمد إلى رفض ذكر اسمه، أو اللجوء لأسماء مستعارة، ربما خوفاً من مطاردة رجال الأمن أو غير ذلك..
رفضتْ في البداية أن تتحدث عن نفسها، أو أن تدعني ألتقط صورة لها، بذريعة أنني قد أكون منتمية لعصابة ما، أعطيهم صورتها ليأتوا ويختطفونها ثم يذبحونها، كما حدث لفتاة أخرى في وقت سابق!!
أقنعتها أنني لن أفعل ذلك، أنني أعد مادة صحفية ثم أريتها بطاقتي الجامعية، فبدأت تطمئن إلي..
قالت في تردد أن عمرها عشر سنوات، ترتدي على ما يبدو ثياب المدرسة المهترئة، ما يعني أنها ترتاد المدرسة، وقد أكدت هذا فعلاً، قائلة: أذهب كل صباح للمدرسة وأعود مباشرة لأبيع هذا، مشيرة إلى صحن تحمله في يديها يحتوي على كرات مغطاة بـمجروش جوز الهند.. تقول أنها عبارة عن حلوى (كرات الثلج)، وأن والدتها تقوم بصنعها في البيت، لتقوم غيداء ببيعها في الشوارع العامة والحدائق..
قالت أن والدها متوفٍ، وأنها أصغر أخواتها التي توكل إليها هذه المهمة السهلة جداً في نظر العائلة.. الخطيرة جداً على أرض الواقع..
فكم نسمع عشرات القصص عن اختفاء فتيات بمختلف الأعمار وفي ظروف غامضة، تعوّدن العمل كبائعات متجولات، أو حتى كمتسوّلات في هذه المنطقة أو تلك.. ثم لا يُسمع عنهن خبر للأبد غالباً..
نشّالة!
كانت غيداء تتحدث وعينها تترقب رجال الأمن الذين يبدون على غير وفاق معها لما لها من سوابق، كما أخبرني أحدهم عندما جاء ليحذرني منها، مدعياً أنها كاذبة ونشالة محترفة، سألتها عن حقيقة الأمر فأنكرَته بشدة، وأتبعت إنكارها بابتسامة تحمل شيئاً من مكر طفولي ظريف.. وعندما هممت لأطرح عليها سؤالاً آخر، إذا بي آراها تهرع نحو سيارة فخمة عبرت أبواب الحديقة، قفزت غيداء نحو باب السيارة الأمامي تعرض حلواها الطيبة لمن في السيارة، لا أعلم ماذا كانت تخبرهم ويخبرونها، فقد كانت تضحك كثيراً، ومن ثم رأيتها تدس أوراقاً نقدية في جيب ثوب مدرستها المهترئ…
فجأة، بدأ صراخ رجال الأمن يدوي في الأرجاء: سارقة، سارقة.. وعندما رأتهم غيداء ركضت مع صحن كرات الثلج بأقصى سرعة حتى توارت خلف أسوار الحديقة..
ليست غيداء وحدها، ولا السبعة أطفال المتواجدين في بقعة لا تتعدى العشرون متراً من قد تراهم عندما تسير في أحد شوارع العاصمة صنعاء أو أي مدينة يمنية أخرى، ففي معظم شوارع العاصمة المكتظة، يزخر مشهد الحياة اليومية بصور مؤلمة لأطفال يزاولون مختلف المهن، باحثين عن قوت يومهم، فبين بائعي الماء والمناديل، وماسحي الأحذية، وحاملي البضائع، يضيع حلم الطفولة في دهاليز الحرب والفقر..
إحصائيات
نشرت منظمة العمل الدولية تقريراً قُدر فيه عدد الأطفال العاملين في اليمن بـ 1.3 مليون طفل، أي ما يعادل 22% من الأطفال دون سن العمل.
يُشكل الذكور 74% من الأطفال العاملين، بينما تُشكل الإناث 26%
أما الأطفال الذين يعملون في ظروف خطرة فيقدر عددهم بـ 800 ألف طفل.
وتقرير آخر نشره الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2022:
يُقدر عدد الأطفال الذين لا يرتادون المدرسة بـ 2.4 مليون طفل، أي ما يعادل 45% من الأطفال في سن الدراسة
ويُشكل الفقر السبب الرئيسي لعدم ارتياد الأطفال للمدرسة، بنسبة 52%.
أسباب:
تُعزى ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن حسب منظمة اليونيسف إلى جملة من الأسباب، أهمها:
الفقر المدقع: حيث تُجبر الأسر الفقيرة أطفالها على العمل لتوفير لقمة العيش، خاصة في ظل الحرب والأزمات الاقتصادية التي تعصف باليمن، حيث أدت المعارك الدامية في مختلف المدن اليمنية إلى نزوح أعداد كبيرة من الأطفال، ما جعل أغلبهم عرضة للاستغلال والعمل في ظروف قاسية.
غياب الوعي: لا يدرك بعض أولياء الأمور خطورة عمالة الأطفال على صحتهم ونموهم، ويسود الاعتقاد بأن العمل يُساعدهم على النضج والاعتماد على أنفسهم.
آثار:
تترك عمالة الأطفال آثاراً سلبية وخيمة على صحة ونمو وتطور الأطفال، ويُعد الحرمان من التعليم أحد أبرز هذه الآثار، فعندما يضطر الأطفال إلى هجر مقاعد الدراسة والالتحاق بسوق العمل يؤدي ذلك بالضرورة إلى تعريضهم للكثير من المخاطر الجسدية والنفسية، كالاستغلال، والاعتداء، والإصابات، والأمراض..
أما الأخطار المستقبلية المحتملة فحدّث ولا حرج، فعدم التحاق آلاف الأطفال بصفوف الدراسة، وتركهم يواجهون وحشية الشارع وضراوته متحملين أعباء ومسؤوليات تفوق قدراتهم، الأمر الذي سيخلق كنتيجة حتمية شريحة ضخمة من المضطربين نفسياً والمجرمين ورجال العصابات…إلخ ما سيؤدي بالطبع إلى عمق تشظي المجتمع وتزايد نسب فساده وضياعه إلى درجات أدهى وأمَر..
هل من حلول؟
سيطرح العديد من المختصين قوائم وعرائض حلول لا حصر لها، ولكن سيقف أمام التنفيذ عائق: ضرورة الاستقرار السياسي والأمني أولاً، ثم الإصلاح العام لكافة مفاصل وزوايا الدولة ثانياً، وكنتيجة طبيعية لهذا، ستتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للأسر بالتالي لن تضطر للتضحية بأطفالها في مستنقع العمل المبكر والكفاح في غياهب المجهول… أما متى قد يحدث كل ذلك فهو في علم الغيب وإرادة القدير وحده..
إرسال التعليق