عمالة الأطفال في اليمن، ظاهرة عمقتها الحرب
وسط سوق علي محسن المركزي في العاصمة صنعاء (سوق لبيع الخضروات بالجملة) يعمل الطفلان أسامة، وعبدالله الوصابي، في جمّع الخضروات المتساقطة على الأرض وبيعها، ونقلها من داخل السوق إلى بوابته الرئيسية، من أجل توفير ما يمكن توفيره من الإحتياجات الضرورية لأسرتهم، المكونة من 9 أفراد بعد أن عجز والدهم عن الحصول على فرصة عمل يجني من خلالها دخلًا يساعده في تغطية المتطلبات الأساسية للأسرة.
البحث عن اللقمة
بشكل يومي قبل أن ترسل الشمس خيوط أشعتها للأحياء، يصحو الطفلان الساعة السادسة صباحًا وعلى عاتقهما مهمة تفوق عمرهما، بحثًا عن ما يسد الرمق، وثم يعودون إلى منزلهم الثامنة مساءً محملين كمّ من التعب والقليل من المال، بعد أن
أجبرتهم ظروف الحياة على ذلك، في رحلة تشتت وضياع توضح حجم المعاناة التي وصل إليها أطفال اليمن في ظل إستمرار الصراع، وغياب اي مؤشرات توحي بإنتهاء حرب قد خلفت الكثير من المآسي في بلد فقير يشهد أسوء أزمة في العالم.
يقول أسامة ذو ال 14 عامًا: أعمل في جمع الخضروات المتساقطة على الأرض من الصباح حتى المساء، وأذهب للبحث عن شخص يشتريها مني، وأحصل على 1500ريال (أي ما يقارب 3دولار أمريكي حسب سعر الصرف في صنعاء)، وأحيانًا أكثر أو أقل، وأعطيه لوالدتي لتشتري به مصاريف البيت.
ويضيف: لا أستطيع أن أتوقف عن العمل يوم واحد، ففي حال لم نعمل قد لا نجد ما نأكل، لا يوجد لدينا ريال واحد في البيت ولا حتى من يسلفنا مبلغ بسيط نعيده إليه عند العودة للعمل، حتى والدي لا يقبل احد ان يسلفه، لكونه عاطل عن العمل، وعليه ديون من قبل سنوات لم يستطع قضائها الى الآن!
وعلى مقربة من الطفل أسامة يعمل شقيقه عبدالله الوصابي الذي يكبره بعام واحد فقط على (عَرَّبة دفع) ينقل بواسطتها البضائع للزبائن من داخل السوق إلى بوابته الرئيسية لمسافة تصل إلى حوالي 100 متر تقريبًا مقابل مبلغ ضئيل لايتجاوز نصف دولار أمريكي من الشخص الواحد.
يتحدث عبدالله لجائلات وفي ملامحه آثار الإرهاق والتعب، قائلًا: هذه الأيام السوق راكد والعمل ضعيف بسبب كثرة العاملين في نقل البضائع وقلة المتسوقين، كان من قبل العمل متحرك، أما الآن نجري خلف الزبون وبالكاد يقبل ان ننقل له بضاعته نتيجة المنافسة الموجودة بيني وبين أصحابي،
وأشار إلى ان عربَتهُ سُرقت قبل شهرين ويستأجر حاليًا واحدة اخرى ب 500 ريال يمني يوميًا، ولا يزال يجمع قيمة عربَّة أخرى.
اما إلياس الريمي 13 عامًا الذي يعمل في نقل البضائع أيضًا تحدث لجائلات قائًا: رغم ضعف العمل هذه الفترة لانزال ندفع ضريبة لمالك السوق بشكل يومي، وتصل إلى ما يقارب 30 بالمئة من المبلغ الذي نحصل عليه من خلال العمل، واذا لم ندفع نمنع من العمل بداخل السوق.
وأستذكر الريمي جزء من المعاملات التي يتلقاها في السوق: اواجه مشاكل كثيرة، واتعرض لكلام جارح من بائعي الخضروات، وتعرضت أكثر من مرة للضرب من قبل أصحاب الخضروات بتهمة السرقة رغم انني أجمع الخضروات التي في الارض فقط.
أعداد كبيرة
ليس أسامة وعبدالله وعشرات الأطفال في سوق علي محسن من يعملون في سن مبكر فقط، بل هناك الآلاف من الاطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 18 عامًا التجئوا للعمل بأعمال شاقة لا تتناسب مع أعمارهم الصغيرة وأجسادهم النحيلة، تجدهم يكابدون مرارة الواقع، ومغيبون عن المدارس، ومشردون في الأسواق والشوارع يواجهون قساوة الحياة بما استطاعوا إليه سبيلًا.
تقول اية خالد: رئيس منصة اكسير للطفولة ل جائلات: كانت عمالة الأطفال قبل اندلاع الحرب قضية، لكنها تحولت إلى ظاهرة، وأصبحت منتشرة بشكل كبير، إذ كان العدد قبل الحرب من الممكن السيطرة عليه وكانت المهن التي يعمل فيها الأطفال محدودة كالبيع في الجولات وأسلوب الشحاتة التي يعتبرها البعض مهنة، وعدة أعمال أخرى كالعمل في
الورش والمحال التجارية ..الخ ، اما الآن فالوضع أصبح أكثر سوء.
وتضيف: عمالة الأطفال في اليمن ليست ظاهرة جديدة على المجتمع اليمني، فهي موجودة من سنين طويلة من قبل الحرب، لكن الحرب تسببت في تفاقم هذه الظاهرة، وكانت سبب في ظهور مهن جديدة لا تناسب الأطفال، كالعمل في المقابر وجبهات القتال، كما ان هناك بعض الأطفال ينجرون للسرقة كنوع من أنواع المهن بطرق مباشرة او غير مباشرة، وبدون أي رقابة أبوية او رقابة قانونية.
وضع كارثي، وتفاقمت ظاهرة عمالة
الأطفال في اليمن خلال السنوات الماضية بسبب الوضع الإقتصادي السيء لليمن وتوقف الرواتب، وقلة فرص العمل ومصادر الدخل، وغلاء الأسعار وغيرها من المشاكل، واصبحت الكثير من الأسر اليمنية تعتمد على الأطفال في توفير متطلبات المنزل.
في هذا السياق تقول اية: هناك تعايش كبير مع عمالة الأطفال في اليمن، وأصبح الكثير يلجئون لسوق العمل لتوفير لقمة العيش ومساعدة أهاليهم، لكن ذلك يعتبر وضعًا كارثيًا، وله أثر سلبي على مستقبل الأطفال، خصوصًا أن الكثير من
صغار السن تسربوا من التعليم وذهبوا إلى جبهات القتال كوسيلة من وسائل العمل وكسب المال، كما عدد كبير تم استغلالهم نفسيًا وجسديًا بغرض توفير لهم لقمة عيش، في ظل الحرب التي فاقمت كل القضايا المُعاشة في واقع الطفولة.
ومن جهته يتحدث المحلل الإقتصادي نبيل الشرعبي لجائلات: عمالة الأطفال باليمن قبل وأثناء الحرب تعد من القضايا المعقدة التي فشل الجميع في إيجاد حلول جذرية لها، رغم أن الجميع يرفعها لافتة ويتحدث عنها ويحذر من مغبتها، لكن لم نلمس توجه جاد لمعالجتها، لأنها ليست حالة أو ظاهرة طفت للسطح بفعل فاعل، وإنما قضية مرتبطة بواقع بلد.
وأضاف: بقدر ما حدث من إنهيار في منظومة البلد جراء الحرب، حدث في المقابل تنامي لعمالة الأطفال، فإنقطاع الرواتب وشحة ثم انعدام فرص العمل النظامية وانهيار مؤشرات تعافي الحياة بشكل عام، ألقى بظلاله على شريحة الأطفال..
وبقدر ما حدث من إنهيار في منظومة البلد جراء الحرب، حدث في المقابل تنامي لعمالة الأطفال، فالكثير من الأسر وجدت نفسها مكرهة على الزج بأطفالها في سباق البحث عن فرصة عمل مهما كانت شاقة وتبعاتها كارثية على مستقبل الطفل بل والأسرة، لأنه يمكن تحمل الألم والعمل الشاق، ولا يمكن تحمل الموت جوعًا، فإنقطاع الرواتب وشحة ثم انعدام فرص العمل النظامية، وإنهيار مؤشرات تعافي الحياة بشكل عام، ألقى بظلاله على شريحة الأطفال بالدرجة الاولى، بحسب الشرعبي.
وحول سؤال (جائلات) عن الحلول التي قد تحد من ظاهرة عمالة الأطفال، يقول الشرعبي: الحلول لا يمكن أن تتم إلا بعودة الحياة إلى طبيعتها، فعمالة الأطفال ستظل بل وستتفاقم أكثر طالما والبلد يتهاوى أكثر فأكثر، وإذا تعافى الوطن مما يعيشه، ستنخفض تدريجيًا إلى حد يتناسب مع واقع دخل الأسر.
قوانين متعثرة
اقرّت الحكومة اليمنية في عام 2002 قانون حقوق الطفل في اليمن، الذي يحدد الحد الأدنى لسن العمل القانوني في 14 عامًا. ولكن، في الوقت الذي يحظر فيه القانون تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا في العمل الصناعي، لم يضع أية قيود على عمل الأطفال في الأعمال والأنشطة والمشاريع الأخرى الخاصة.
حول هذا الخصوص تقول آية: تضاعفت عمالة الأطفال بسبب وجود قوانين صريحة تجرم عمالة الأطفال محليا، حيث أن الحكومة اليمنية في عام 2002 أقرت قانون حقوق الطفل في اليمن، الذي يحدد الحد الأدنى لسن العمل القانوني في 14
عامًا، لكن، في الوقت الذي يحظر فيه القانون تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا في العمل الصناعي، لم يضع القانون اليمني أي قيود على عمل الأطفال في الأعمال والأنشطة والمشاريع الأخرى الخاصة، كما أنها تضاعفت بسبب عدم وجود نص صريح في القانون يجرم أو يعاقب الشخص الذي يقوم بتشغيل طفل عنده او إعطاء الطفل فرصة مزاولة أي
مهنة عمل لا تناسبه.
وتشير خالد إلى أن: الطبيعة المجتمعية والعادات والتقاليد التي تقول ان الطفل الذي وصل الى عمر لا يتجاوز ال 18 عاما أصبح رجلًا وعليه الإلتحاق بالعمل تعد كارثة وجريمة إنسانية واجتماعية وتعليمية وعملية ترتكب بحق الأطفال، لأن الطفل في هذه المرحلة بحاجة إلى مُعيل لكي يتمكن من إكمال دراسته الأساسية والثانوية والدخول إلى العالم
الجامعي.
آثار نفسية
ومن أهم المشاكل التي يتعرض لها الطفل الذي يصنف ضمن دائرة عمالة الأطفال هي مشاكل نفسية بالدرجة الاولى، ومن ثم مشاكل جسدية وتعليمية وإجتماعية.
المشاكل النفسية تتمثل بأن الطفل العامل تتكون لديه حسرة من بقية الأطفال؛ وبحسب آية خالد، يكون هذا الطفل في الوقت الذي يعمل فيه، ويرى أطفال ذاهبين إلى المدارس، وقد يكون هو محرومًا من تعليمه وهذه مشكلة تتحول في المستقبل إلى
مشكلة مجتمعية.
وتكمل خالد حديثها: من ضمن المشاكل أيضًا ان الطفل نفسيًا يربى وعنده عقدة معينة، ومن الممكن أنه عندما يكبر ويصل إلى سن معين وعليه أن يعمل، يكون لايزال عائشًا في القالب الذي وضع فيه بالصغر انه مجبر على ان يعمل، وان الظروف وضعته تحت هذا الواقع.
ومن المشاكل ايضًا ان الطفل نفسيًا يربى طفل غير سويًا، ويحرم من حقوقه في الرفاهية ومن حقه في التعليم والبقاء مع أسرته، ومن حقه في اللعب وجوانب اخرى, وقد تحدث مشاكل جسدية في المستقبل للأطفال، فالكثير منهم تعرضون
للضرب، والبعض يعملون في أعمال شاقة، كحمل الأحجار والبناء وغيرها من المهن التي تؤثر عليه جسديا وصحيا مع الوقت، وتظهر عنده مشاكل تسبب له اعاقات مستقبلا.
وعمالة الأطفال محرمة في كل القوانين والمواثيق الدولية الخاصة بإتفاقية حقوق الطفل الدولية، بالإضافة إلى القوانين المحلية التي تعاقب كل من يدفع الطفل لعمل في أي مهنة خاصة، وكانت هذه المهنة شاقة لأي سبب من الاسباب، لكن هذه الظاهرة تشهد إنتشارًا كبيرًا في ظل ضعف القوانين وعدم تطبيقها، وتغاضي الجهات المختصة.
ومنذ إندلاع الحرب في البلاد توجه الكثير من الأطفال اليمنين للعمل بالعديد من الأعمال الشاقة والمهن الجديدة التي تؤثر عليهم من جوانب مختلفة بسبب الواقع المعيشي الصعب، من أجل مساعدة أسرهم في توفير متطلبات المعيشة، وأصبح
بعضهم يعيلون أسر بأكملها بعد أن انعدمت فرص عمل ذويهم وانقطاع مرتبات العاملين في القطاع الحكومي.
إرسال التعليق