السعيدة.. يُتعسها القات
_استطلاع_
“السعيدة” هكذا أُطلق على اليمن قديمًا نظرًا لشهرتها الزراعية، ولا عجب أو استغراب في ذلك فقد وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، ولنا أن نتأمل في شأن هذه البلدة التي ربط الله جلالته وعظمته وربوبيته بها، وهي حقائق كثيرة تثبت الحكمة الإلهية في تكوين هذا البلد..
نعم، حقائق وليست كلامًا عابرًا أو قصصًا تروى.. لا، بل ثبت أنها قوية في تكوينها الجغرافي، في تربتها واحجارها، في مبانيها وبحارها، في جوها ومناخها، في باطنها ومعادنها، وفي ثمارها ومحاصيلها.. وبذكر محاصيلها، يعني هذا أن هناك المئات بل الآلاف من شتى الأنواع والأشكال والألوان والنكهات.. هناك الحبوب والفواكه الخضروات.. ولك أن تتخيل عدد الأصناف التي تندرج تحت كل مسمى.. لكن ما ينغص صفوة وجمال ذلك، هو محصول “القات” الذي يفضلّه المزارعون عن باقي المحاصيل الأخرى..
زراعة القات لأجل العيش
تنتشر زراعة القات بشكل كبير ومخيف، وفي أهم وأخصب الأراضي الزراعية، لأن غالبية السكان يُقبلون على تناول القات، بشكل يومي ما دفع الكثير من المزارعين إلى الإهتمام بزراعة القات، على حساب المحاصيل الأخرى، لأنه يدرّ عليهم المال الوفير على مدار العام.. وفي هذه المادة جلنا على عددٍ من المزارعين، لنعرف أسباب ذلك ومِن مَنْ كان معنا..
“محمد أحمد” _مزارع قات_ سألناه عن سبب إستبدال الخضروات والفواكه والحبوب، خاصة البُن والعنب بشجرة القات؟
“السبب الأول والرئيس هو الربح السريع والهائل، أما السبب الثاني هو جَنيّ المال في السنة من ثلاث إلى أربع مرات، أما حصاد البُن والعنب متعب جدًا، وأيضًا يتم الحصاد مرة في السنة، مثلًا العنب يتم قطفه بعناية وحذر، وبعدها نقل سلات العنب وبعدها تجفيفها في مكان تم تجهيزه، وبذل جهد كبير للتجفيف من شهرين إلى ثلاثة أشهر، ويتم بعد ذلك حصاده بما يسمى بالزبيب، الأمر مجهدٍ ومتعب ومكلف، لكنه مختلف بالنسبة لشجرة القات وقطفها”
“صالح”_مزارع قات أخر_ أخبرنا أنه يربح مبالغ كبيرة من القات، تصل حدود الــ ١٠_٢٠ مليون وما فوق، وهذا يكفيه ويكفي أسرته لسنوات عديدة.. حسب تعبيره
فريد _مزارع قات، وخريج كلية الزراعة بجامعة صنعاء_ تفرّد فريد في إجابته عن سؤالنا له هل تتوقع أن يأتي يوم وتعزف فيه عن زراعة محصول القات، وزراعة الفواكة والخضورات عوضًا عنه؟ فقال مؤكدًا: “لا، لن يأتي هذا اليوم، إلا إذا وفرت لنا الحكومة أدوات زراعية وعملت على الترويج والتسويق لمحصولاتنا الزراعية.. وإعفاءنا من الضرائب عنها..”
إلى مواصير المياه
يمضغ القات بحثًا عن الكيف وهروبًا من هموم الواقع، يمضغه ليشغل وقت فراغه بالجلوس والسكون، يمضغه ليحظى بجلسة أُنس مع الرفاق والخلان، يمضغه ليكمل عمله بنشاط وإنجاز.. هكذا هو حال معظم اليمنيين رجالًا كانو أم نساء..
“عبدالله” _ موظف حكومي، 37 عامًا_ سببُ تعاطيه للقات أن طبيعة عمله تبدأ من الليل، فلا يستطيع مقاومة النوم إلا بوضع الكثير من أوراق القات في فمه، وطحنها لتستقر تحت أظراسه، وهذا ما يجعلهُ يقضًا ومتنبهًا، طوال الليل لينجز أعماله..
أما “أمنة” _40 عامًا_ تصرّح بأنها لا تستطيع إكمال يومها إلا بتخزينة قات والخروج مع جاراتها إلى عرس أو عزاء أو إلى “ولاد” أو حتى الجلوس بمفردها في المنزل.. لا يهمها أين ستقضي يومها أو حتى مع من، بل المهم هو أن يكون قاتها موجودًا في كل الأحوال..
وهنا “حاشد” _25 عامًا، طالبٌ جامعي_ عند سؤاله هل لن تستطيع إنجاز أعمالك إلا بتعاطيك القات: “بإمكاني العمل بدون قات، وأيضا يمكنني التخلي عن القات لفترة طويلة جدًا” ويوضح حاشد أنه يشعر بحالة عقلانية في حال تعاطيه القات فيقول: “القات يشعرني بالوقار وقد يبدو الأمر مضحكًا، لكنها حقيقة فالقات يزيد من مفعول الوقار في داخلي، وأصبح أكثر نضجاً وأتعامل بعقلانية مع المواضيع الأخرى..”
ومع الوهم والخيال الذي يعيشه المواطن اليمني المتعاطي لأوراق القات، وأنها تمده بالطاقة وتمنحه الهدوء والسكينة.. وإنفاقه جلّ ما يملكه ليذهب مسرعًا إلى سوق القات مهما كان حجم المبلغ الذي يملكه صغيرًا أو كبيرًا.. تراه يذهب كله (للمقوت) بكل سعادة، للحصول على كيس أو كيسين من القات وتخزينه في فمه، لينتهي به المطاف في نهاية اليوم إلى أكياس القمامة أو إلى مواصير المياه.
البيئة تدفع الثمن
الحالة الطبيعية للنباتات في عالم الزراعة، أن تكون لها مواسم حصاد على مدار العام، لكن شجرة القات لها طقوس أخرى، بالنسبة للمزارع اليمني فهو لم يجعل لها موسمًا معينًا لحصادها، بل جعل حصادها طوال العام، مستخدمًا بذلك الكثير من الأسمدة والمبيدات، ما يسبب مرضًا للحياة البيئية، وهذا ما أوضحه المهندس الزراعي عادل مطهر بأن: “شجرة القات ليست هي المضرة بالبيئة فحالها كحال أي شجرة عادية، بل الإنسان هو المتسبب الرئيس في ضرر البيئة والتربة، بسبب استخدامه الجائر للأسمدة والمبيدات العشوائية لشجرة القات، رغبةً وطمعًا في حصادها بشكل سريع” ورأى مطهر من منظوره الشخصي بأن القات لا مستقبل له قائلًا: “صحيح أنه حاليًا يعتبر القات أساسيًا لحياة المواطن، ولكن مستقبلًا سيتلاشى بسبب أن البلاد ستكون في نهضة انشائية وصناعية قادمة، تنسي المواطن هذه الشجرة وتعاطيها”
الأمن الغذائي إلى أين؟
الأمن الغذائي في اليمن، مهددٌ بشجرة القات وسطوها على المحاصيل الأخرى وهذا ماسيؤثر مستقبلًا على المواطن، فزراعة القات تحتل المرتبة الثانية بعد زراعة الحبوب في اليمن نتيجة لإرتفاع الجدوى الإقتصادية منه، مقابل تدني جدوى المحاصيل الزراعية الآخرى، وخاصة المحاصيل النقدية كزراعة البُن والقطن والبقوليات والخضروات والفواكه ،ويعود ذلك إلى إرتفاع تكلفة إنتاج تلك المحاصيل جراء استخدام وسائل زراعية تقليدية، من جانب وارتفاع كلفة الإنتاج النهائي للمنتج، وكذلك إرتفاع الفاقد في إنتاج الفواكه والخضروات من جانب آخر، خلافاً للقات الذي أصبح يهدد الأمن الغذائي الوطني، وكذلك يهدد زراعة البقوليات والخضروات والفواكه ،، وهذا ما أدلى به الخبير الإقتصادي رشيد الحداد: “خلال السنوات الماضية عزف الكثير من المزارعين عن زراعة المحاصيل الزراعية الحيوية التي تندرج في إطار الأمن الغذائي، واتجهوا نحو زراعة القات بهدف الحصول على عائد مالي كبير ، ويأتي ذلك كنتيجة لغياب سياسيات حكومية لتحفيز وتشجيع المزارعين على الإستمرار في زراعة الحبوب والفواكه والخضروات من جانب، وكذلك مواجهة المزارعين لتحديات تمثلت في صعوبة نفاذ منتجاتهم للأسواق الخارجية خاصة منذ بداية الحرب ،يضاف إلى أن المنتجات المحلية عانت من الإغراق التجاري بسلع ومنتجات مماثلة لها ،وعلى سبيل المثال إغراق الأسواق المحلية بالزبيب الصيني والأجنبي تسبب بأضرار كبيرة للمزرعين في بني حشيش، وفي خولان، وفي صعدة الذين وجدوا أنفسهم أمام منافسة غير شريفة في السوق، ولم يستطيعوا تسويق منتجاتهم في الأسواق المحلية، والحصول على العائد الذي كانوا يحصلون عليه قبل ذلك، ما دفع بالبعض منهم إلى إستبدال زراعة العنب بالقات وكذلك المنتجات الأخرى..”
واشار الحداد إلى ضرورة إيجاد إستراتيجية وطنية لمواجهة آفة اتساع زراعة القات على حساب المحاصيل الزراعية الهامة.
كنوزٌ مُتجاهلة !
البُن واحدُ من آلاف المحاصيل اليمنية ذات الجودة والسعر الأعلى على مستوى العالم، والطلبُ على البُن اليمني كبير جدًا فقد وصل الكيلو من البن الصافي ذو الجودة العالية إلى أن يُباع محلياً بنحو ٣٠ دولار، فلو حققنا فقط ٥٠ ألف طن من البُن، فستغطي اليمن فاتورة الإستيراد من العملات الأجنبية من عائدات البُن فقط، وعلى ذلك فقسّ باقي المحاصيل الزراعية، لو أننا ننتج ١٠٠ ألف طن سنويًا.. سيفوق العائد إيرادات النفط والغاز والإيرادات الضريبية والجمركية وحتى تحويلات المغتربين.. فإلى متى ستضل هذه الكنوز الزراعية متجاهلة ومهمشة؟
إرسال التعليق