عروس تعز
“صَبِر” أو “جبل صَبِر”.. هو ذلك الحجاب المَهيب الذي تتوارى الشمس خلفه نهاية دواماتها.. على كفّة الغرب وقلب القلب “تعز”..
لصَبِر المديرية ثلاثة أقسام أو جهات، لكل منها اسم وصفة وخصائص تتفرد بها عن أُختيها، الأولى وتدعى “صبر الموادم” وهي الأخت الكبرى من حيث الحجم ومن حيث عدد الأبناء..
الثانية وتدعى “المسراخ” ويا له من اسم عجيب! يؤسفني عدم معرفة معناه أو سبب إطلاقه على هذه المنطقة..
أما الأخت الصغرى فتدعى “مشرعة وحدنان” وتُلقّب هذه المتفردة بـ “كوبا اليمن” وذلك لوجود عدد كبير من المنتمين للـ”يسارية” فيها..
صَبر.. صبر التاريخ والأزل، صبر الأرض والإنسان، صبر تعز، وتعز صبر.. إنك لا تكاد تذكر الأولى إلا وتراءت لك الأخرى تلقائياً.. أُم وابنتها، وردة وبتلاتها، عنوان كتاب ومضمونه.. هكذا هي صبر بالنسبة لتعز، وتعز بالنسبة لصبر..
صبر الصبر والشموخ، صبر الصلابة والثبات، صبر الفن والتراث، صبر الفتنة والسحر والخيال.. صبر المشاقر!
بصراحة، لن تحتاج للعيش في هذه الـ”صبِر” لتخرج بمثل هذه الاستنتاجات والتوصيفات، لن تحتاج للبحث وجمع المعلومات، لن تحتاج لشهود عيان أو خبراء.. لن تحتاج لأكثر من تطليعة واحدة نحو “طودها” العظيم، نحو “عروسها” الأنيق شديد الوسامة والبهاء والإبهار.. تطليعة واحدة من القاع، ستشد عنقك نحو الأعلى ولأقصى درجة ولا تحسب أن بصرك سيطال جبهة هذا الفتى المتعالي.. لن أستطيع أن أصف لك بصورة منصفة ما قد يحدث.. تطليعة واحدة وكحادثة أقرب للسحر والشعوذة، سيفيض العلم والنور والإدراك من جميع حواسك وستعرف الحقيقة والإنصاف.. ستعرف صبر ومن تكون صبر… هكذا حدث معي، كانت لي زيارة يتيمة لصبر، سريعة وخاطفة، ممتدة لثلاث ساعات.. عِشتُ فيها وترعرعت وتعلمت ونضجت وسمَوت.. نعم، حدث لي كل هذا من زيارة واحدة لتلك الفاتنة العبقرية.. كانت الرحلة بواسطة سيارة.. رحلة عجيبة مثيرة، ارتبطت في ذهني لاشعورياً برحلة “المعراج”!
عشرات اللفّات والدورات.. صعوداً مَهيباً جليلاً يملأ القلب بقدسيّة وروحانية لا تكاد تُضاهيها ألف صلاة قرب الكعبة.. لم يكن مجرد صعود نحو قمة جبل لا.. لقد كانت المرة الأولى ولعلّها الأخيرة التي أصعد فيها نحو (الله)!!
هكذا بدا لي الأمر جليّاً حينها والآن، الآن بعد مرور سنين عديدة وحياة وروح… لم أفهم حينها حقيقة ما كان يحدث ولم أفهم حتى اليوم ولا أريد أن أفهم، فالمعجزات تأتي لتخترق اليقين وتمد جذور سطوَتها في الوعي واللاوعي.. تُدركك وتُدركها إنما بعجز تام عن شرحها ووصفها، وكأنه الشرط غير المعلن بينكما..
بين صعود وآخر، بين سماء وأخرى، سترى أولئك الروحانيين بدون قصد منهم، أولئك الملائكة والأنبياء _رغماً عن أنف شياطينهم_ ستراهم مبعثرين في تنافس جميل هم وباقات الزهور المعلقة على امتداد جدران الجبل.. مُتكئين على “المداكئ، مُكيّفين”.. تنبعث من أعينهم رِيحة السكْرة المقدسة ونشوة الإفتتان الإلهيّ العظيم..
سترى العَجَب الأعمق إدهاشاً كلما سمَوت نحو الأعلى.. ستجد تلك الورود النادرة جداً، لن تجد مثلها إلا في الجنّة الموعودة.. ورود تتزيّن بالـ”مَشاقر”، و”مَشاقر” تتزيّن بالورود، بصراحة، ستجد صعوبة بالغة للوهلة الأولى في التمييز بين مشاقر صبر وفتيات صبر، فكلاهما بذات اللون والنضارة والعذوبة والرقة وريحانية الرائحة..
ستعرف أيضاً معنى أن تطفو فوق الغمام، ستفعل ذلك حرفياً وليس مجازاً عندما تطأ قدماك تاج العروس المغطى بشراشف الغيوم الناصعة الطهر..
ستعرف كيف تبدو فتوّة الشتاء في مسرح الصيف..
وستعرف كيف تُسحب منك كل ذاكرتك فلا تعود إلا عندما تعود، عندما تخرج من نِطاق السحر والخدَر، من نِطاق صبر..
هي التجربة الاستثنائية الفريدة لمن يزورها حتى وإن زارها لألف مرة..
أما إن تحدثنا عن الجانب الخدمي، أو مظاهر التطوير والاهتمام المفروض من قبل الجهات المختصة لهذه المنطقة السياحية بفطرتها، فللأسف لن تجد أمارة حقيقية واحدة، فيما عدا البعض من الإصلاحات للطرق الرئيسية، كذلك القليل من المشاريع الاستثمارية المهترئة التابعة لبعض رجال الأعمال..
بالعموم، ستراها منطقة عذراء شديدة البدائية والنقاء، باقية هكذا على حالها الأول عندما قام برسمها وابتداعها الإله في حينه.. لم يطرأ عليها أي تجميل وتهذيب لدرجة أنه إن جاء فرد من قاطنيها قبل مئة ألف سنة فلن يشعر بأي غربة أو انعدام أُلفة، سيجد الدروب ذاتها والأزقة ذاتها وحتى أماكن الحجارة والأشجار المترامية هنا وهناك، ولن يتوه عن مقتنيات خبأها خلف تلك الشجرة أو تحت ذاك الحجر..
إرسال التعليق